عندما تتحول التنمية إلى بيروقراطية مالية

في عالم التنمية، حيث يُفترض أن تكون المشاريع أدوات للتغيير الإيجابي، تبرز تحديات جوهرية في إدارتها، خاصة عندما تكون ممولة من جهات مانحة. فبدلاً من التركيز على تحقيق الأثر المستدام، نجد أن بعض مدراء المشاريع ينزلقون إلى عقلية بيروقراطية تجعل الإنفاق المالي وإغلاق الملفات الإدارية هو الهدف الأساسي، بينما يصبح التأثير الفعلي على المجتمعات مسألة ثانوية.
يعود هذا الأمر إلى ثقافات مؤسسية ترسخت بمرور الزمن، وسياسات الجهات المانحة التي تفرض أولوياتها على مدراء المشاريع، مما يجعلهم يعملون وفق قوالب إدارية صارمة بدلاً من التفاعل الديناميكي مع احتياجات المجتمعات المستفيدة. في هذا المقال، نسلط الضوء على ثلاث عقليات شائعة تُعيق نجاح المشاريع التنموية، ونناقش الحلول العملية لتجاوزها.
العقلية الأولى: “حرق الأموال”.. الإنفاق يصبح الهدف الأساسي
يُشيع في أوساط المشاريع الممولة مصطلح “Burn Rate”، والذي يشير إلى نسبة إنفاق الموازنة المخصصة للمشروع. وبينما يُعد الصرف الفعّال للتمويل عنصرًا مهمًا لضمان تنفيذ الأنشطة، فإن بعض مدراء المشاريع يقعون في فخ “حرق الأموال”، وكأن الهدف هو تحقيق نسبة إنفاق 100% بغض النظر عن مدى جدوى هذا الصرف.
تجد وجه مسؤول التواصل لدى الجهة المانحة شاحبًا عندما يسمع أن هناك وفرًا في الموازنة، وكأن التوفير جريمة يجب تجنبها! هذه الثقافة تؤدي إلى إنفاق غير مسؤول، خصوصًا في الأشهر الأخيرة من المشروع، حيث تُصرف مبالغ طائلة على أنشطة غير مخططة أو غير ضرورية فقط لضمان عدم إعادة أي جزء من التمويل إلى المانح. فجأة، تجد الورشات التدريبية تتضاعف، والمشتريات تزداد، والعقود تبرم بسرعة، ليس لأن هناك حاجة فعلية، بل لأن “المال يجب أن يُحرق”!
العقلية الثانية: “إغلاق المشروع”.. الإدارة بدلًا من التأثير
بالنسبة لكثير من فرق التنمية، يُعد مؤشر النجاح الأساسي هو إغلاق الملفات الإدارية والمالية، وإنهاء التقارير المطلوبة للجهة المانحة. بمجرد انتهاء مدة التنفيذ، يتحول المشروع إلى مجرد “رقم” في الأرشيف، دون متابعة حقيقية لما إذا كان قد أحدث فرقًا حقيقيًا في حياة الناس أم لا.
وربما يرجع هذا الأمر إلى الخوف من ظهور آثار سلبية بعد انتهاء المشروع، أو عدم الثقة في تحقيق الأثر الإيجابي كما يجب، مما يجعل مدراء المشاريع يفضلون إغلاق الملفات بسرعة قبل أن تظهر أي تحديات مستقبلية غير محسوبة. هذا النمط من التفكير يجعل المشاريع التنموية أقرب إلى “مهمات مؤقتة” تنتهي بانتهاء التمويل، بدلاً من أن تكون أدوات تغيير مستدامة.
العقلية الثالثة: “الوفرة في الصرف”.. غياب المساءلة المالية
عندما تخصص الجهات المانحة ميزانيات ضخمة للمشاريع التنموية، من المفترض أن يتم استخدامها بحكمة لتحقيق أفضل الأثر الممكن. ولكن في بعض الحالات، نجد أن هذه الأموال تُصرف بطريقة غير مسؤولة، إما بسبب ضعف الرقابة، أو بسبب غياب ثقافة المحاسبة والمساءلة.
يحدث هذا عندما يُدار المال بمنطق “المال ليس من جيبي”، حيث تجد، على سبيل المثال، مدير مشروع يدفع آلاف الدولارات لمورّد لم يسلم الخدمة أو المنتج بالمواصفات المطلوبة، فقط لأن “العقد تم توقيعه” أو لأن “الدفع كان جزءًا من الاتفاق”. غياب الرقابة والمحاسبة يجعل هذا النوع من الصرف غير المسؤول أمرًا معتادًا في بعض المشاريع، مما يُضعف ثقة المجتمعات المستفيدة في فعالية العمل التنموي.
نحو إدارة أكثر مسؤولية وفعالية
1. تغيير ثقافة “حرق الأموال” نحو إدارة مالية أكثر ذكاءً
• بدلاً من قياس نجاح المشروع بنسبة الصرف، يجب قياسه بنسبة الأثر المتحقق لكل دولار يُنفق.
• يجب أن تشجع سياسات التمويل على إعادة توجيه الفوائض المالية لأنشطة أكثر فاعلية، أو مشاريع أخرى في نفس البرنامج بدلاً من إجبار المشاريع على صرف كل شيء دون تفكير.
• يجب أن تتبنى المنظمات المحلية موقفًا صارمًا أمام الجهات المانحة في مسألة الوفر المالي وإعادة توجيهه إلى أنشطة ذات فاعلية.
2. دمج متابعة الأثر في هيكلية المشروع
• عند كتابة مقترح المشروع، يجب تخصيص جزء واضح لمتابعة الأثر بعد انتهاء التنفيذ، وعدم الاكتفاء بتقييم المشروع فور انتهائه فقط.
• ينبغي أن تُدمج أنشطة قياس الأثر ضمن خطة المشروع، بحيث تكون هناك موازنة مخصصة لهذا الغرض.
• تبني ثقافة بيئة أمنة للفشل “Safe to Fail”، حيث يكون الفشل في تحقيق بعض الأهداف فرصة للتعلم والتطوير، بدلاً من التستر عليه أو تزييف البيانات لجعل المشروع يبدو ناجحًا على الورق.
3. تعزيز الشفافية والمساءلة المالية
• يجب تطبيق سياسات تدقيق صارمة على عمليات الصرف، بحيث لا يتم دفع أي مبلغ إلا بعد التحقق من استيفاء الخدمة أو المنتج للمواصفات المطلوبة.
• وضع آليات لمحاسبة مدراء المشاريع والبرامج على قراراتهم المالية، بحيث يتم تقييم أدائهم بناءً على جودة الإنفاق، وليس فقط على سرعة الصرف.
• تشجيع ثقافة التفاوض والبحث عن أفضل العروض والأسعار عند التعامل مع المورّدين، لضمان تحقيق أعلى قيمة ممكنة مقابل كل مبلغ يُنفق.
ختامًا: كسر القيود المفروضة على التنمية
لا ألوم مدراء المشاريع على هذه العقليات، فأنا أدرك تمامًا أن هذه الممارسات ليست مجرد أخطاء فردية، بل هي نتاج سياسات وأجندات تفرضها الجهات المانحة على القطاع التنموي. ومع ذلك، فإن مسؤوليتنا كمدراء مشاريع وكعاملين في هذا المجال هي مناصرة نهج أكثر كفاءة وعدالة، والضغط من أجل تغيير هذه السياسات.
يجب أن نبدأ بكسر هذه الثقافة داخل منظماتنا، وأن نطالب بسياسات تمويل تشجع على تحقيق الأثر بدلاً من مجرد الإنفاق، وأن نأخذ مواقف واضحة أمام الجهات المانحة لدفعها نحو تغيير أولوياتها. لأن التنمية الحقيقية لا تُقاس بعدد التقارير التي تُنجز، ولا بعدد الدولارات التي تُصرف، بل بالتغيير الذي يحدث على الأرض، ويبقى حتى بعد انتهاء المشروع.