معلومات الكاتب
الحمى والابتكار الاجتماعي: إرث حضاري ونموذج للتنمية المستدامة
.ai-(3)-avatar.jpg)
يمثل الحمى، وهو المنطقة المحمية، منظومة اجتماعية اقتصادية بيئية كانت موجودة قبل الإسلام. ومع بداية الحضارة الإسلامية أرسى الإسلام قواعد لحوكمة الحمى من أجل خدمة الصالح العام وحماية الموارد الطبيعية والاستدامة وجعلها مرتبطة بالمجتمع المدني ضمن إدارة محلية للموارد الطبيعية. ولعل إحياء الحمى كمؤسسة مبتكرة مرتبطة بالثقافة المحلية يحيي نموذجاً من التنمية الأصيلة المرتبطة بالإنسان يشمل محميات للرعي وتربية النحل والزراعة والغابات والحياة البرية.
جذور تاريخية للحمى
كان من عادة الحضارات القديمة في بلاد ما بين النهرين ومصر والصين والأزتك والرومان تخصيص مناطق محمية لأغراض الصيد، ضمن ضوابط تمنع الصيد في أوقات محددة للحفاظ على النوع. في ما يلي مراجعة تاريخية لمنظومة الحمى ضمن منظور الابتكار الاجتماعي والثقافي.
المرحلة الأولى للحمى كانت قبل الحضارة الإسلامية. فقد بدأ الحمى كنظام لحماية الكائنات الحية خلال أوقات الجفاف والقحط، حيث كان النظام القبلي يحرص على توفير المنافع العامة لضمان تماسك المجتمع والولاء للقبيلة. وقد كانت حرب البسوس التي استمرت أربعين عاماً نتيجة للتعدي على حدود الحمى. إذ كان الحمى يمثل ملاذاً آمناً للكائنات الحية، ولا يحق لأحد التعدي على هذا الحق العام، وتصبح الكائنات الحية التي تمر بالحمى ملكاً لصاحب الأرض المحمية.
البشر أوصياء: الحمى في الإسلام
المرحلة الثانية للحمى في الحضارة الإسلامية تمثل ابتكاراً مؤسسياً وحضارياً، إذ وضع الإسلام ضوابط للحمى ووظائفه وحوكمته بحيث لا يكون تخصيصه وإنشاؤه إلا عبر هيئة رسمية شرعية. كذلك حُددت الغاية والمقصد من الحمى بحيث يحقق المصلحة العامة. وتم تحديد المساحة المخصصة له بحيث لا تكون كبيرة فتحرم المجتمع المحلي من المصادر العامة للرعي والزراعة والصيد والشرب. ومن الشروط الواجبة عند إنشاء الحمى ضمان تحقيق منافع عامة وقيمة مجتمعية تفوق الأضرار المتوقعة.
ويوثق التاريخ خطاب عمر بن الخطاب إلى مدير "حمى ضرية"، وهو جزء جميل من منطقة عالية نجد اختاره عمر حمىً لإبل الدولة الإسلامية. فقد أكد في خطابه الحرص على تحقيق العدالة الاجتماعية والعيش الكريم لعامة الناس والحفاظ على استدامة الكائنات الحية وتوفير مصدر دخل مستدام للعامة، لكون هذه الموارد للخالق وما البشر إلا أوصياء على إدارتها بشكل حصيف.
لقد أسس الرسول عليه الصلاة والسلام حمى للخيول قرب المدينة، وجعل مكة والمدينة المنورة حرماً حيث يحظر الصيد بقطر مقداره أربعة أميال ويحظر قطع النخيل ضمن 12 ميلاً. وخصص الخلفاء الراشدون حمى للكائنات الحية كصدقة جارية للفقراء ونوع من شبكات الأمان الاجتماعي عبر تعزيز الخدمات البيئية مثل الرعي والسقاية والزراعة وتحقيق الأمن الغذائي.
وبذلك أصبح الحمى نموذجاً لتحقيق العدالة الاجتماعية وحماية الموارد الطبيعية ضمن محميات للحفاظ على الأنواع والموائل. ولضمان استدامة الحمى كانت هناك ضوابط لمنع قطع الأشجار والتعدي على الحق العام.
وثمة إشارات موحية في المدينة المنورة لحماية الكائنات الحية. من ذلك أن الصحابي سعيد الخدري أطلق طائراً كان يحبسه عدد من الفتيان. وتكرر ذلك مع صحابة آخرين مثل زيد بن ثابت وعبادة بن الصامت. وردع أبو أيوب الأنصاري فتية حبسوا ذئباً في حمى المدينة. ومن أقوال أبي هريرة: "لو أنني رأيت غزالاً في المدينة فلن أؤذيه". وهذا المنظور يؤكد البعد الإنساني والحضاري لعلاقة الإنسان بالمحيط الخارجي
الحمى في العصور الوسطى: المرج الأخضر
المرحلة الثالثة للحمى كانت خلال العصور الوسطى، حيث استمر كمؤسسة اجتماعية مبتكرة لاستدامة الموائل الطبيعية والخدمات البيئية. وبحسب المصادر المختلفة استمرت هذه المحميات الطبيعية (الحمى) حول المدن والريف والبادية بمساحات تتراوح من بضعة هكتارات إلى مئات الكيلومترات المربعة. وقد وثّق الماوردي والسيوطي الضوابط والمعايير القانونية لإدارة الحمى. ولكن بعض الأحماء تراجعت نتيجة الحروب، مثل حمى الرباضة على طريق الحج بين بغداد ومكة.
أما نموذج الأعمال المبتكر لاستدامة الحمى فكان مبنياً على الوقف الخيري زمن نور الدين زنكي (1146م - 1149م) في مدينة دمشق، وكان يسمى المرج الاخضر وخُصص للخيول الكبيرة العمر. واستمر هذا الحمى حتى عام 1930 ثم توقف نتيجة توسع مدينة دمشق والنمو العمراني. وفي عام 2004 قررت الحكومة السورية بناء متنزّه عام ضمن أرض الحمى من أجل الحفاظ على الطبيعة حسب شرط الوقف.
وتولت المجتمعات المحلية عبر التاريخ إدارة الحمى وفق مبادئ الشريعة والعرف ضمن حوكمة محلية. وقد منح الرسول عليه السلام صلاحية إدارة الحمى للمجتمعات المحلية لتأكيد مفهوم التنمية المرتبطة بالإنسان واللامركزية.
من الحمى إلى المحمية
المرحلة الرابعة للحمى هي في القرن العشرين حين كان يدار من قبل إدارة محلية من السكان المحليين لغايات الرعي في الأردن وسورية واليمن والسعودية. وكانت الإدارة البيئية ركناً مهماً للحفاظ على الهوية والإرث الحضاري. وفي المجتمعات القبلية كانت إدارة الأراضي المحمية تتم بالإجماع حسب العرف ومن دون إطار تشريعي وقانوني، عبر لجان محلية أو مجلس محلي للإدارة المتكاملة للأراضي المحمية.
التوسع العمراني
لكن هذا النمط من الحوكمة تغير وأصبحت الأراضي المحمية تدار من قبل الحكومات منذ منتصف القرن العشرين نظراً للتوسع العمراني على حساب الرقعة الزراعية. على سبيل المثال، كان في المملكة العربية السعودية نحو 3000 منطقة تحت مسمّى "حمى" عام 1950. وفي 1954 صدر قرار بأن تتولى وزارة الزراعة والمياه إدارة الأراضي الريفية وتم تحويل الحمى إلى ملكية عامة. وكانت أول محمية طبيعية في السعودية هي عسير. في هذه المرحلة تم حظر الحمى والتحول إلى المحميات الطبيعية بسبب الأثر السلبي على الحياة البرية والخدمات البيئية نتيجة الرعي الجائر والصيد. ولا توجد حالياً إلا أربع محميات تدار من قبل وزارة الزراعة ومحميات محدودة تدار من المجتمعات المحلية (National park).
يمكن إجمال هذه المرحلة بضمور الحمى في عدّة دول مثل سورية واليمن والسعودية. وهذا يعود إلى التخلي عن الإدارة التقليدية المرتبطة بالسكان المحليين ووجود فراغ مؤسسي نتيجة اعتماد أطر مؤسسية غير متوائمة مع السياق الاجتماعي الثقافي.
وفي العقود الأخيرة من القرن العشرين تم تأسيس هيئات تعنى بالإدارة البيئية. وهناك اهتمام بمراعاة النماذج التقليدية والمعرفة المحلية لإدارة الموارد الطبيعية كما تشير إليه دراسات من الهيئة الوطنية لتطوير الحياة الفطرية في السعودية. وحصلت محاولات لتطوير فكرة الحمى في سورية من خلال تعاونيات محلية. ولكن هذه التجربة بحاجة إلى تقييم نظراً لأن هذه المناطق غنية بالتنوع البيولوجي ولها قيمة اقتصادية وبيئية وعلمية.
الفجوة الخضراء
هناك توجه لتحديد مناطق محمية لغايات السياحة البيئية في العالم العربي باعتماد المعرفة المحلية والتنمية المرتبطة بالإنسان. لكن ثمة فجوة غالباً في نقل الخطاب العلمي للتنمية المستدامة إلى فضاء السياسات العامة. وما زالت هناك حاجة لتضمين الاقتصاد البيئي والخدمات البيئية في ظل التحول نحو الاقتصاد الأخضر والدائري. وفي تجربة رائدة وواعدة، تعمل جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) على إعادة إحياء نهج الحمى في نماذج عصرية تجمع بين المعارف التقليدية والتقدم العلمي، بالشراكة مع البلديات والمجتمعات المحلية. وذلك بهدف الاستخدام المستدام للموارد الطبیعیة والمحافظة على التنوع الحیوي والإرث الطبیعي والثقافي. وقد تم تأسيس 31 حمى حتى الآن في أنحاء لبنان.
خلاصة القول
يمثل الحمى إرثًا حضاريًا ومؤسسة اجتماعية بيئية تستحق الإحياء، ليس فقط لحماية الموارد، بل لبناء نموذج أعمال مبتكر قائم على القيم الإنسانية والمعرفة المحلية
هل كان المقال مفيداً؟