معلومات الكاتب
الاستدامة في العمل التنموي: من بناء المؤسسات إلى تنويع مصادر التمويل
.ai-(9)-avatar.jpg)
انتشر مصطلح "الاستدامة" بشكل واسع في أدبيات العمل التنموي خلال العقود القليلة الماضية، وأصبح من المفاهيم الأساسية المؤثرة في البحوث والسياسات الإنمائية، بل تحوّل إلى المعيار الأهم لضمان نجاح المشاريع التنموية واستمرار تمويلها، ولقياس أثر الإنفاق التنموي على المجتمعات المستفيدة. في هذا المقال، أتناول مفهوم الاستدامة من ثلاث زوايا رئيسية: استدامة المؤسسة، واستدامة أهداف المشروع بعد التنفيذ، واستدامة التمويل.
أولًا: استدامة المؤسسة
استدامة المؤسسة تعني بناء كيان قادر على البقاء والاستمرار بفعالية في مجال العمل الإنساني والتنموي لفترة طويلة. لتحقيق هذا الهدف، لا بد من وجود تخطيط استراتيجي طويل الأمد، إلى جانب قدرة المؤسسة على التكيّف مع المتغيرات الإيجابية أو السلبية التي قد تحدث على أرض الواقع، سواء كانت تلك المتغيرات على المستوى السياسي، أو الاقتصادي، أو المؤسسي.
واحدة من أفضل الأدوات التي تساعد المؤسسة على تقييم واقعها ووضع خطة للبقاء وتحقيق الاستدامة، هي ورشة تحليل "SWOT" التي تقوم بتحديد نقاط القوة، والضعف، والفرص، والتهديدات. من خلال ورشة عمل منظمة باستخدام هذا النموذج، يمكن تحديد القضايا الرئيسية التي قد تُسهم في تأمين مستقبل المؤسسة، أو تهدد وجودها.
المشكلات قد تكون داخلية، مثل ضعف التنظيم الإداري، أو غياب السياسات والإجراءات، أو نقص الكوادر البشرية المؤهلة. وقد تكون خارجية، مثل الأوضاع الأمنية غير المستقرة، أو التغيرات في السياسات الدولية، أو التحديات البيئية. وتكمن أهمية هذا التحليل في تمكين المؤسسة من وضع خطة للاستجابة لهذه التحديات، بناءً على أولويات واضحة.
ثانيًا: استدامة المشاريع بعد تنفيذها
الاستدامة في المشاريع التنموية هي مفهوم شامل يتعلق باستمرارية العناصر الاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية، والمؤسسية في المجتمعات البشرية، بل وتشمل البيئة غير البشرية أيضًا. وقد عرّفت لجنة برونتلاند التابعة للأمم المتحدة عام 1987 التنمية المستدامة بأنها: "التنمية التي تلبي احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتهم الخاصة."
في السياق العملي، تعني الاستدامة في المشاريع ضمان استمرار تقديم الخدمات والفوائد للمستفيدين بعد انتهاء فترة تمويل المشروع أو انسحاب الجهة المانحة. لتحقيق هذا الهدف، لا بد من توافر مجموعة من الخصائص في تصميم وتنفيذ المشروع، ومنها:
- القدرة على التكيف: أي أن يكون المشروع مرنًا وقادرًا على التغيّر وفق الظروف المحيطة والتعامل مع الاضطرابات غير المتوقعة.
- القدرة على التدقيق: وتشير إلى وجود نظام لمراجعة وتقييم الأداء وضمان الشفافية والمساءلة.
- القدرة على التنفيذ: يجب أن يكون المشروع واقعيًا، وممكن التحقيق، ومصممًا بطريقة تجعله قابلًا للتنفيذ من حيث الموارد والقدرات المتاحة.
- قابلية التوسع: تعني قدرة المشروع على التوسّع واستيعاب إضافات أو أنشطة جديدة ضمن نفس الإطار.
- قابلية المد: تشير إلى إمكانية تمديد عمر المشروع أو تعديل وظائفه دون التأثير على فعاليته.
- قابلية الصيانة: أي إمكانية تصحيح الأخطاء، وتلبية المتطلبات الجديدة، والتعامل مع التغيرات المستقبلية.
- وجود هيكل إداري: يوضح المسؤوليات ويُسهم في حسن إدارة المشروع وتحقيق أهدافه على المدى البعيد.
من الضروري التنويه إلى أهمية التخطيط لمرحلة ما بعد التنفيذ خاصة في المشاريع التي تعتمد على التدريب أو بناء القدرات. فغياب التنسيق مع الحكومات المحلية وعدم توفر إشراف مؤسسي مستمر قد يؤدي إلى ممارسات خاطئة من قبل المستفيدين، مثلًا في مشاريع المياه والصحة العامة، مما قد يتسبب في أضرار للمجتمع بدلًا من مساعدته.
ثالثًا: استدامة التمويل
استدامة التمويل تُعد أحد الأهداف الأساسية التي تسعى إليها معظم مؤسسات المجتمع المدني، كونها تمكّن المؤسسة من مواصلة أعمالها لفترة كافية لتحقيق أهدافها الاستراتيجية. غالبًا ما تعتقد المؤسسات أنها ستحصل تلقائيًا على منح من جهات متعددة، لكن الواقع أكثر تعقيدًا. لذلك من الضروري أن تعمل المؤسسة على تطوير شراكات طويلة الأجل مع المانحين، وأن تنوّع مصادر دخلها من خلال ابتكار أنشطة وفعاليات مناسبة.
أهم طرق تنويع مصادر التمويل تشمل:
-
فرض رسوم على بعض الخدمات: بحيث تكون هذه الرسوم مناسبة لطبيعة الخدمة وقيمتها بالنسبة للمستفيد.
-
الحصول على دعم من الحكومات المحلية: خاصة في المشاريع التي ترتبط بخدمات الشباب أو كبار السن، من خلال ربط أهداف المشروع بخطط السلطات المحلية.
-
تنظيم الفعاليات والأنشطة الخيرية: مثل حفلات العشاء الخيري، أو تقديم خدمات مجتمعية مدفوعة الرمزية لجمع التبرعات.
-
الأوقاف: وذلك عبر استثمار الهبات والمنح المالية لضمان دخل دائم يُستخدم في تمويل المشاريع الحالية والمستقبلية.
-
رسوم العضوية: في حال كانت المؤسسة تقدم خدمات حصرية لأعضائها.
-
الدعم العيني: عن طريق جمع تبرعات عينية من المتاجر أو المؤسسات، أو من خلال إشراك متطوعين في تنظيم الأنشطة.
-
المتاجر الخيرية: التي تُسهم في جمع الأموال من خلال بيع منتجات أو أدوات متبرع بها، بما في ذلك سلع تحمل شعار المؤسسة.
تنويع مصادر التمويل يُقلل من الاعتماد على جهة واحدة، ويعزز مرونة المؤسسة في مواجهة التقلبات المالية، مما يُسهم في استدامتها المالية على المدى البعيد.
خاتمة
الاستدامة في العمل التنموي ليست خيارًا بل ضرورة حتمية لضمان استمرار الأثر وتحقيق أهداف التنمية على المدى الطويل. من خلال بناء مؤسسات مرنة، وتصميم مشاريع قابلة للتوسع والتكيف، وتطوير آليات تمويل متعددة ومستدامة، يمكن للمؤسسات التنموية أن تكون أكثر فاعلية في خدمة المجتمعات وتحقيق التغيير الحقيقي.
هل كان المقال مفيداً؟